فصل: حصول الفرقة باختلاف الدّار بين الزّوجين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


خيار النّقد

التّعريف

1 - سبق تعريف الخيار‏.‏ أمّا النّقد فمن معانيه لغةً‏:‏ الإعطاء والقبض، يقال نقدت الرّجل الدّراهم، فانتقدها بمعنى أعطيته إيّاها فقبضها‏.‏

وخيار النّقد اصطلاحاً هو‏:‏ حقّ يشترطه العاقد للتّمكّن من الفسخ لعدم النّقد‏.‏

وله صورتان‏:‏

أ - التّعاقد واشتراط أنّ المشتري إذا لم ينقد الثّمن إلى مدّة معلومة فلا عقد بينهما‏.‏ ومستعمل الخيار في هذه الصّورة هو المشتري، وإن كانت فائدته الكبرى للبائع‏.‏

وقد وصفوا هذه الصّورة أنّها بمنزلة اشتراط ‏"‏ خيار الشّرط ‏"‏ للمشتري‏.‏

ب - التّعاقد ثمّ قيام المشتري بالنّقد مع الاتّفاق على أنّ البائع إذا ردّ العوض في مدّة معلومة فلا عقد بينهما‏.‏ ومستعمل الخيار هنا هو البائع، وهو وحده المنتفع بالخيار‏.‏ وهذه الحالة الثّانية ذات شبه تامّ ببيع الوفاء ممّا جعل بعضهم يدخل بيع الوفاء في خيار النّقد، وهو قول البائع للمشتري‏:‏ بعتك هذه الدّار بكذا بشرط أنّي متى رددت إليك الثّمن في موعد كذا تردّ إليّ المبيع، وهذه الصّورة بمنزلة اشتراط ‏"‏ خيار الشّرط ‏"‏ للبائع‏.‏

مشروعيّته

2 - أثبت هذا الخيار المالكيّة والحنابلة والحنفيّة، إلاّ زفر بن الهذيل‏.‏ وقال به الثّوريّ وإسحاق وأبو ثور، وحكي عن عمر وابن عمر، وقال به من الشّافعيّة أبو إسحاق الشّيرازيّ محتجًّا بأثر عمر فيه‏.‏ وخالف في هذا الخيار الشّافعيّة في الصّحيح، وزفر‏.‏ واستدلّ مثبتو هذا الخيار بالقياس وآثار الصّحابة ووجوه من المعقول‏.‏

أمّا القياس فهو مقيس على خيار الشّرط لاتّحاد العلّة بينهما، وهي التّروّي‏.‏

فهاهنا يتروّى البائع أيحصل له الثّمن أم لا‏.‏

وكذلك يتروّى المشتري أيناسبه البيع أم لا، فيستردّ ما نقد ‏"‏ باشتراط ذلك مع البائع ‏"‏‏.‏

وأمّا آثار الصّحابة في ذلك، فقد روي الأخذ به عن عمر وغيره، وذكر عبد الرّزّاق في المصنّف أنّ عمرو بن دينار أثبته، وقضى به شريح في واقعة، وأنّ المشتري جاء بالثّمن من الغد فاختصما إلى شريح فقال‏:‏ أنت أخلفته‏.‏

واحتجّوا له من وجوه المعقول بداعي الحاجة إليه، كالحاجة إلى خيار الشّرط، للتّروّي من المشتري في معرفة قدرته على النّقد، ومن البائع ليتأمّل هل يصل إليه الثّمن في المدّة تحرّزاً عن المماطلة من العاقد الآخر‏.‏

واستدلّ من لم يثبت هذا الخيار بأنّه ليس بشرط خيار، بل هو شرط فاسد مفسد للعقد، لأنّه شرط في العقد شرطاً مطلقاً وعلّق فسخه على غرر، فأشبه ما لو عقد بيعاً مثلاً بشرط أنّه إن قدم زيد اليوم فلا بيع بيننا‏.‏ واحتجّ زفر لنفيه بقياس آخر هو أنّه بيع شرطت فيه إقالة فاسدة لتعلّقها بالشّرط، واشتراط الإقالة الصّحيحة في البيع مفسد للعقد فكيف باشتراط الفاسدة‏؟‏

وما ذكره زفر هو القياس، وقد ذكر الكاسانيّ أنّ ثبوت خيار النّقد على خلاف القياس، فهو جائز بالاستحسان، ووجه الاستحسان أنّ البيع الّذي فيه خيار النّقد هو في معنى البيع الّذي فيه خيار الشّرط بجامع التّعليق في كليهما، كلّ ما في الأمر اختلاف المعلّق عليه بين كونه مرور المدّة دون فسخ أو مرورها دون نقد‏.‏ ولا يمنع ثبوته بالقياس ‏"‏ أو بالدّلالة الّتي هي أقوى منه ‏"‏ أنّه ثبت استحساناً على خلاف القياس، فالمراد قياسه على خيار الشّرط وكلاهما ثبتا على خلاف القياس، أي مخالفين للأصول العامّة القاضية بلزوم العقد كأصل ثابت‏.‏

صاحب الخيار

3 - يمكن أن يكون صاحب الخيار المشتري أو البائع بحسب الصّورة الّتي اشترط فيها، فإذا ظهر بعبارة ‏"‏ على أنّ المشتري إذا نقد في المدّة، وإلاّ فلا بيع ‏"‏ فصاحبه هو المشتري، لأنّه هو المتمكّن من الفسخ بعدم النّقد‏.‏ وأمّا إن ظهر بعبارة ‏"‏ إن ردّ البائع الثّمن خلال المدّة المعيّنة فالبيع مفسوخ ‏"‏ فصاحب الخيار هو البائع، وردّه الثّمن تصرّف منه بالفسخ‏.‏

وفائدة البائع من هذا الخيار أكثر من المشتري لأنّه يستفيد منه، سواء أكان الخيار للمشتري، أم كان البائع صاحب الخيار، لانتفاعه بحصول الفسخ إذا مطل المشتري‏.‏

مدّة خيار النّقد

4 - لم تتّفق الآراء الفقهيّة في مدّته، بل اختلفت، أسوةً بالخلاف الواقع في خيار الشّرط، لأنّه في معناه، مع بعض المغايرة نظرًا لثبوت خيار الشّرط بالنّصّ وثبوت هذا الخيار بالاجتهاد، والآراء في مدّته هي‏:‏

أ - التّفويض للمتعاقدين‏:‏ فلهما أن يحدّدا الأمد الّذي يريان فيه مصلحتهما، ولو زاد عن ثلاثة أيّام‏.‏ وهذا مذهب الحنابلة ومحمّد بن الحسن وحده من الحنفيّة، وقد جرى على موجب قوله في خيار الشّرط، وعليه الثّوريّ وإسحاق‏.‏

ب - التّحديد بثلاثة أيّام، أو ما يقاربها‏:‏ وليس للمتعاقدين أن يشترطا مدّةً زائدةً‏.‏

فالتّحديد بالثّلاث قول أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف ‏"‏ وقد خالف صنيعه في خيار الشّرط لتفريقه بينهما، لورود آثار فيه بما فوق الثّلاث، وبقي خيار النّقد على أصل المنع ‏"‏ وهو أيضاً مذهب أبي ثور وحكي عن ابن عمر‏.‏ وأمّا التّحديد بما يقارب الثّلاث على أن لا يجاوز العشرين يوماً فهو قول مالك‏.‏

هذا، وإن اشترط ما يزيد عن الثّلاث، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ينظر إن نقد في الثّلاث جاز، وإلاّ فسد البيع ولم ينفسخ، كما حقّقه ظهير الدّين، وأقرّ ذلك ابن الهمام وابن عابدين‏.‏ وقد جعلوا ذلك قيداً موضّحاً للمراد من عبارة ‏"‏ فلا بيع بيننا ‏"‏ في صورتي خيار النّقد، فإنّها بظاهرها تقتضي الانفساخ بعد النّقد أو بالرّدّ بعد النّقد، لكنّهم حملوا المراد على أنّه للفساد، أي يستحقّ الفسخ ويمكن انقلابه صحيحاً إذا لم يتمكّن فساده، كما في النّقد قبل انقضاء الأيّام الثّلاثة‏.‏

سقوطه وانتقاله

5 - خيار النّقد يماثل خيار الشّرط في أسباب السّقوط وأحكامه، وكذلك انتقاله، فهو لا يورث عند الحنفيّة أسوةً بخيار الشّرط ‏"‏ أصله ‏"‏‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏خيار الشّرط‏)‏‏.‏

صورة مشهورة من خيار النّقد بيع الوفاء

6- جعل ابن نجيم من الحنفيّة المكان الأنسب لبحث بيع الوفاء هو خيار النّقد، وعلّل ذلك بأنّ بيع الوفاء من أفراد مسألة خيار النّقد‏.‏ لكنّ صاحب الحاشية على كتابه ابن عابدين لم يرتض ذلك التّعليل حيث نقل عن ‏"‏ النّهر ‏"‏ أنّه إنّما يكون من أفراده بناءً على القول بفساد بيع الوفاء إن زاد على الثّلاث، لا على القول بصحّته، إذ خيار النّقد مقيّد بثلاثة أيّام، وبيع الوفاء غير مقيّد بها، فأنّى يكون من أفراده‏؟‏، وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع الوفاء‏)‏‏.‏

خيار الهلاك

انظر‏:‏ بيع‏.‏

خياطة

انظر‏:‏ ألبسة‏.‏

خيط

انظر‏:‏ ألبسة‏.‏

خيانة

التّعريف

1 - الخيانة والخون لغةً‏:‏ أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء‏}‏ ونقيض الخيانة الأمانة‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الغشّ‏:‏

2 - الغشّ لغةً‏:‏ نقيض النّصح، وقد غشّه يغشّه غشّاً،ترك نصحه وزيّن له غير المصلحة‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ هو تدليس يرجع لذات المبيع، كتجعيد الشّعر، ودقّ الثّوب،والخيانة أعمّ منه‏.‏ إذ هي تدليس يرجع إلى ذات المبيع، أو إلى صفته، كأن يصفه بصفات كاذبة، أو إلى أمر خارج، كأن يذكر ثمناً على وجه الكذب‏.‏

ب - النّفاق‏:‏

3 - النّفاق‏:‏ الدّخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر‏.‏

والخيانة تقال في شأن العهد والأمانة، والنّفاق يقال في شأن الدّين‏.‏

ج - الغصب والسّرقة‏:‏

4 - فرّق العلماء بين الخائن والسّارق والغاصب، بأنّ الخائن هو الّذي خان ما جعل عليه أميناً، والسّارق من أخذ خفيةً من موضع كان ممنوعاً من الوصول إليه، وربّما قيل كلّ سارق خائن دون عكس، والغاصب من أخذ جهاراً معتمداً على قوّته‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالخيانة

5 - خيانة الأمانة حرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»‏.‏

وقد عدّ الذّهبيّ وابن حجر الهيتميّ، الخيانة من الكبائر، ثمّ قال‏:‏ الخيانة قبيحة في كلّ شيء، لكنّ بعضها أشدّ وأقبح من بعض، إذ من خانك في فلس ليس كمن خانك في أهلك‏.‏

الخيانة في بيوع الأمانة

6 - الأصل في بيوع الأمانة أنّها مبنيّة على الثّقة والاطمئنان في التّعامل بين الطّرفين‏:‏ البائع والمشتري‏.‏ فعلى البائع الصّدق في الإخبار عمّا اشترى به وعمّا قام به عليه إن باع بلفظ القيام، لأنّ المشتري ائتمن البائع في إخباره عن الثّمن الأوّل من غير بيّنة ولا استحلاف، فتجب صيانة بيوع الأمانة عن الخيانة وعن سبب الخيانة والتّهمة، لأنّ التّحرّز عن ذلك كلّه واجب ما أمكن، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من غشّنا فليس منّا»‏.‏ والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها إنّما يحصل ببيان ما يجب بيانه‏.‏

أمّا حكم الخيانة إذا ظهرت في بيوع الأمانة فللفقهاء فيه خلاف، وتفصيل ذلك في مصطلح

‏(‏بيع الأمانة‏)‏‏.‏

خيانة عامل المساقاة

7 - العامل أمين والقول قوله فيما يدّعيه من هلاك وما يدّعى عليه من خيانة‏.‏

فإن ثبتت خيانة العامل بإقرار أو بيّنة، أو يمين مردودة، ضمّ إليه من يشرف عليه إلى أن يتمّ العمل ولا تزال يده، لأنّ العمل حقّ عليه ويمكن استيفاؤه منه بهذا الطّريق فتعيّن سلوكه جمعًا بين الحقّين، وأجرة المشرف على العامل‏.‏

أمّا إذا لم تثبت الخيانة ولكن ارتاب المالك فيه فإنّه يضمّ إليه مشرف وأجرته حينئذ على المالك‏.‏ هذا عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

أمّا الحنفيّة فيعتبرون كون العامل سارقاً يخاف عليه من سرقة السّعف والثّمر قبل الإدراك، من المعاني الّتي هي عذر في فسخ المساقاة، لأنّه يلزم صاحب الأرض ضرراً لم يلتزمه فتنفسخ به‏.‏

ويقول المالكيّة‏:‏ إنّ المساقاة من العقود اللّازمة فليس لأحد العاقدين فسخها بعد العقد دون الآخر ما لم يتراضيا عليه، وبناءً عليه إذا كان العامل لصّاً أو ظالماً، لم ينفسخ العقد بذلك، ولا يقام غيره مقامه بل يحفظ منه، لأنّ فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه، فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة‏.‏

أخذ اللّقطة بنيّة الخيانة

8 - من أخذ اللّقطة بنيّة الخيانة والاستيلاء يكون ضامناً غاصباً لم يبرّأ من ضمانها حتّى يؤدّيها إلى صاحبها، وفي براءة الملتقط بدفع اللّقطة إلى الحاكم أو ردّها إلى الموضع الّذي أخذها منه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏لقطة‏)‏‏.‏

خيانة أهل الصّنائع

9 - يراعي المحتسب أحوال أهل الصّنائع من حيث الأمانة والخيانة، فيقرّ أهل الثّقة والأمانة منهم، ويبعد من ظهرت خيانته، ويشهر أمره لئلاّ يغترّ به من لا يعرفه‏.‏

ولمّا لم تدخل الإحاطة بأفعال السّوقة تحت وسع المحتسب جاز له أن يجعل لأهل كلّ صنعة عرّيفاً من صالح أهلها خبيراً بصناعتهم، بصيراً بغشوشهم وتدليساتهم، مشهوراً بالثّقة والأمانة، يكون مشرفاً على أحوالهم ويطالعه بأخبارهم وما يجلب إلى سوقهم من السّلع والبضائع،وما تستقرّ عليه من الأسعار وغير ذلك من الأسباب الّتي يلزم المحتسب معرفتها‏.‏ فقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «استعينوا على كلّ صنعة بصالح أهلها»‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏حسبة‏)‏‏.‏

قطع يد الخائن

10 - لا تقطع يد خائن ولا خائنة‏.‏ فقد روى جابر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع»‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ وقد حكي الإجماع على هذه الجملة‏.‏

ولأنّ الواجب قطع يد السّارق، والخائن غير سارق لقصور في الحرز، لأنّ المال قد كان في يد الخائن وحرزه لا حرز المالك على الخلوص، وذلك لأنّ حرزه وإن كان حرز المالك فإنّه أحرزه بإيداعه عنده لكنّه حرز مأذون للأخذ في دخوله‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في قطع جاحد العاريّة‏:‏ فذهب الجمهور إلى أنّ جاحد العاريّة لا قطع عليه لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع»، ولأنّ الواجب قطع السّارق، والجاحد غير سارق وإنّما هو خائن فأشبه جاحد الوديعة‏.‏ وقال أحمد في رواية وإسحاق بن راهويه‏:‏ إنّ جاحد العاريّة عليه القطع، لما في الصّحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها «أنّ امرأةً كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها»‏.‏ ووجه دلالة الحديث على ذلك واضحة، فإنّه صلى الله عليه وسلم رتّب القطع على جحد العاريّة‏.‏

وقال جمهور الفقهاء في حديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ إنّ القطع كان عن سرقة صدرت منها بعد أن كانت أيضاً مشهورةً بجحد العاريّة فعرفتها عائشة بوصفها المشهور، فالمعنى امرأة كان وصفها جحد العاريّة فسرقت فأمر بقطعها‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ أمّا جاحد الوديعة وغيرها من الأمانات فلا نعلم أحداً يقول بوجوب القطع عليه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ سرقة‏:‏ عاريّة‏)‏‏.‏

خيانة المهادنين

11 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لو استشعر الإمام خيانة المهادنين بأمارات تدلّ عليها، لا بمجرّد توهّم، لم ينتقض عهدهم بل ينبذ إليهم العهد جوازاً، لقول اللّه تعالى‏:‏

‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء‏}‏ أي أعلمهم بنقض العهد حتّى تصير أنت وهم سواءً في العلم، فيعلمهم بنقض عهدهم وجوباً قبل الإغارة عليهم وقتالهم، للآية‏.‏ ومتى نقض الإمام الهدنة وفي دارنا منهم أحد وجب ردّهم إلى مأمنهم، لأنّهم دخلوا بأمان فوجب أن يردّوا آمنين، وإن كان عليهم حقّ استوفي منهم كغيرهم للعموميّات‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن استشعر الإمام أي ظنّ خيانة أهل الحرب قبل المدّة بظهور أمارتها نبذ العهد الواقع بينه وبينهم على المهادنة وترك الجهاد وجوباً، لئلاّ يوقع التّمادي عليه في الهلكة، وإنّما سقط العهد المتيقّن بالظّنّ الّذي ظهرت علاماته للضّرورة‏.‏

وإنّما ينذرهم الإمام وجوباً بأنّه لا عهد لهم، فإن تحقّق خيانتهم نبذه بلا إنذار‏.‏

أمّا الحنفيّة فيجيزون للإمام نقض الصّلح بعد أن صالح أهل الحرب مدّةً، والنّبذ إليهم، إذا رأى نقض الصّلح أنفع حتّى لو لم يستشعر خيانتهم لأنّه «عليه الصلاة والسلام نبذ الموادعة الّتي كانت بينه وبين أهل مكّة»، ولأنّ المصلحة لمّا تبدّلت كان النّبذ جهاداً‏.‏ وإيفاء العهد ترك الجهاد صورةً ومعنًى، ولا بدّ من النّبذ تحرّزاً عن الغدر وهو محرّم بالعمومات‏.‏ وينقل ابن الهمام الإجماع على أنّ نبذ الموادعة لا يتقيّد بخطور الخوف، لأنّ المهادنة في الأوّل ما صحّت، إلاّ لأنّها أنفع، فلمّا تبدّل الحال عاد إلى المنع‏.‏

وإن بدءوا بخيانة قاتلهم الإمام ولم ينبذ إليهم إذا كان نقص العهد باتّفاقهم، لأنّهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏هدنة‏)‏‏.‏

خيانة أهل الذّمّة

12 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ أهل الذّمّة إذا خيف منهم الخيانة لم ينبذ إليهم العهد، والفرق بينهم وبين أهل الهدنة أنّ عقد الذّمّة وجب لهم، ولهذا إذا طلبوا عقد الذّمّة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة، والنّظر في عقد الهدنة للمسلمين، ولهذا لو طلب الكفّار الهدنة كان النّظر فيها إلى الإمام، إن رأى عقدها عقد، وإن لم ير عقدها لم يعقد، فكان النّظر إليه في نقضها عند الخوف، ولأنّ أهل الذّمّة في قبضة الإمام وتحت ولايته، فإذا ظهرت منهم خيانة أمكن استدراكها بخلاف أهل الهدنة فإنّهم خارجون عن قبضة الإمام، فإذا ظهرت خيانتهم لم يمكن استدراكها فجاز نقضها بالخوف‏.‏

خيانة المسلم أهل الحرب

13 - من دخل من المسلمين إلى أرض العدوّ بأمان لم يخنهم في مالهم، لأنّهم إنّما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم وتأمينه إيّاهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللّفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحلّ له خيانتهم لأنّه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر‏.‏ وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون على شروطهم»‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏أهل الحرب‏)‏‏.‏

خروج الخائن في الجيش

14 - يمنع الخائن من الخروج في الجيش، وهو الّذي يتجسّس للكفّار ويطلعهم على عورات المسلمين بالمكاتبة والمراسلة‏.‏ والتّفصيل في مصطلحي‏:‏ ‏(‏جهاد، وتجسّس‏)‏‏.‏

مواطن البحث

15 - يأتي ذكر الخيانة في كثير من الأبواب الفقهيّة كالبيع، والشّركة، والمضاربة، الوديعة والعاريّة، واللّقطة، والوكالة، والوصايا، والحضانة والشّهادة، والسّير‏.‏

خيل

التّعريف

1 - الخيل جماعة الأفراس‏.‏ والخيل مؤنّثة ولا واحد لها من لفظها، أو واحدها خائل، والجمع خيول وأخيال، وسمّيت خيلاً لاختيالها أي إعجابها بنفسها مرحاً‏.‏

قال بعضهم‏:‏ وتطلق على العراب والبراذين ذكورهما وإناثهما، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا‏}‏‏.‏ ويطلق أيضاً على الفرسان، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ‏}‏ أي بفرسانك ورجّالتك‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ بالإطلاق الأوّل‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - حثّ الشّارع على اقتناء الخيل للجهاد وارتباطها في سبيل اللّه‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»‏.‏

وتنظر الأحكام المتعلّقة بذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏فروسيّة‏)‏‏.‏

وتتعلّق بالخيل أحكام منها‏:‏

زكاتها

3 - ذهب جمهور الفقهاء وهو قول أبي يوسف ومحمّد وعليه الفتوى عند الحنفيّة‏:‏ إلى أنّه لا زكاة في الخيل إلاّ إذا كانت للتّجارة، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة»‏.‏

وعن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قد عفوت عن صدقة الخيل والرّقيق»‏.‏ ولأنّها ليست من بهيمة الأنعام فلم تجب زكاتها كالوحوش‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ الخيل السّائمة إذا كانت ذكوراً وإناثاً تجب فيها الزّكاة، وإن كان الكلّ إناثاً ففيه روايتان، وإن كان الكلّ ذكوراً ففي ظاهر الرّواية لا تجب، وفي مسائل النّوادر أنّها تجب‏.‏ ولتفصيل ذلك يرجع إلى‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

أكلها

4 - يرى جمهور الفقهاء الشّافعيّة والحنابلة وهو قول للمالكيّة أنّ الخيل مباح أكلها‏.‏

ويرى الحنفيّة في الرّاجح عندهم وهو قول ثان للمالكيّة‏:‏ إنّ أكلها حلال مع الكراهة التّنزيهيّة، وبه قال الأوزاعيّ وأبو عبيد، وفي رواية عن أبي حنيفة مع الكراهة التّحريميّة ونحوه قول للمالكيّة أيضاً، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏أطعمة‏)‏‏.‏

سهمها في الغنيمة

5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الغنيمة يقسم منها للفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين، وحسين بن ثابت والثّوريّ، واللّيث بن سعد، وإسحاق وأبو ثور‏.‏ لما روى ابن عمر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم، سهمين لفرسه وسهماً له»‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ للفرس سهم واحد، لما روى مجمّع بن حارثة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس سهمين وأعطى الرّاجل سهماً»، ولأنّه حيوان ذو سهم، فلم يزد على سهم كالآدميّ‏.‏

ولا يسهم لأكثر من فرس واحد عند الحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - والمالكيّة، والشّافعيّة، لأنّه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها، فلا يسهم لما زاد عليها‏.‏

ويرى الحنابلة، وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة، أنّه يسهم لفرسين ولا يسهم لأكثر من ذلك‏.‏ لما روى الأوزاعيّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرّجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس»‏.‏

ولأنّ به إلى الثّاني حاجةً، فإنّ إدامة ركوب واحد تضعفه، وتمنع القتال عليه، فيسهم له كالأوّل بخلاف الثّالث فإنّه مستغنًى عنه‏.‏ وفي الموضوع تفصيل ينظر في ‏(‏غنائم‏)‏‏.‏

المسابقة بينها

6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز المسابقة بين الخيل سواء أكانت بعوض أم بغيره، وفي كيفيّة تحقّق السّبق بينها تفصيل ينظر في مصطلحي‏:‏ ‏(‏رمي، وسبق‏)‏‏.‏

7- وبالإضافة إلى ما سبق يتعلّق بالخيل مسائل أخرى بحثها الفقهاء في مواطنها، فمسألة إنزاء الحمير عليها تطرّق إليها الفقهاء في الزّكاة، وطهارة بولها للمجاهد أصابه بأرض حرب، بحث في باب النّجاسات، وركوب المرأة عليها بحث في مباحث الحظر والإباحة‏.‏ ومنع الذّمّيّ من ركوبها بحث في الجزية عند الحديث عن تمييز أهل الذّمّة في الملبس، وغير ذلك من الأمور‏.‏

خيلاء

انظر‏:‏ اختيال‏.‏

داتورة

انظر‏:‏ مخدّر‏.‏

داخل

التّعريف

1 - الدّاخل في اللّغة‏:‏ فاعل من دخل الشّيء دخولاً، وداخل الشّيء خلاف خارجه، ودخلت الدّار ونحوها دخولاً صرت داخلها، فهي حاوية لك‏.‏

والمراد بالدّاخل في عرف الفقهاء واضع اليد على العين،ويعبّر عنه بعض الفقهاء بذي اليد، وصاحب اليد، والحائز‏.‏ يقول البعليّ الحنبليّ‏:‏ الدّاخل‏:‏ من العين المتنازع فيها في يده‏.‏ وجاء في المجلّة في تعريف ذي اليد‏:‏ ‏"‏ هو الّذي وضع يده على عين بالفعل، أو الّذي ثبت تصرّفه تصرّف الملّاك ‏"‏‏.‏

ويستعمل الفقهاء ‏"‏ الدّاخل ‏"‏ بالمعاني اللّغويّة والعرفيّة المشار إليها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخارج‏:‏

2 - الخارج خلاف الدّاخل‏.‏ ويراد به في اصطلاح الفقهاء من لا شيء في يده، بل جاء من الخارج، وينازع الدّاخل ‏"‏ ذا اليد ‏"‏‏.‏ فهو البريء عن وضع اليد والتّصرّف بالوجه المذكور‏.‏ ويكثر استعمال كلمتي الدّاخل والخارج عند الفقهاء في مباحث الدّعوى والبيّنات‏.‏

وإذا تميّز الدّاخل عن الخارج في دعوى الملك يتميّز المدّعي عن المدّعى عليه، فالخارج هو المدّعي، والدّاخل هو المدّعى عليه، وهذا هو الأصل في الدّعوى، لأنّ الدّاخل لا يحتاج إلى الدّعوى لوجود العين في يده‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

3 - ذكر الفقهاء في الدّعاوى وترجيح البيّنات صوراً ترجّح فيها بيّنة الخارج على الدّاخل، وأخرى ترجّح فيها بيّنة الدّاخل على الخارج في دعوى الملك حال إقامة البيّنة من الطّرفين، نذكر منها الصّور المشهورة التّالية مع بيان أدلّتهم إجمالاً تاركين التّفصيل إلى مواضعه من مصطلحات‏:‏ ‏(‏تعارض، دعوى، شهادة‏)‏‏.‏

أوّلاً‏:‏ البيّنة على دعوى الملك المطلق

4 - إذا تداعى الرّجلان على ملك مطلق بأن ادّعيا ملك عين دون سبب الملكيّة من الإرث أو الشّراء أو غيرهما، وأقام كلّ واحد منهما بيّنةً على ذلك، فقال الحنفيّة وهو المشهور عند الحنابلة وقول عبد الملك بن الماجشون من المالكيّة‏:‏ يقضى ببيّنة الخارج، ولا تعتبر بيّنة الدّاخل ‏"‏ ذي اليد ‏"‏ في ملك مطلق، وذلك لأنّ الخارج هو المدّعي، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»‏.‏ فجعل جنس البيّنة في جنبة المدّعي فلا يبقى في جنبة المدّعى عليه بيّنة‏.‏ ولأنّ بيّنة المدّعي أكثر فائدةً، فوجب تقديمها، كتقديم بيّنة الجرح على التّعديل، ودليل كثرة فائدتها أنّها تثبت سببًا لم يكن، وبيّنة المنكر إنّما تثبت ظاهراً تدلّ عليه اليد، فلم تكن مفيدةً، لأنّ الشّهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتّصرّف‏.‏

وقال الشّافعيّة وهو المشهور عند المالكيّة ورواية عند الحنابلة‏:‏ إن كانت العين في يد أحدهما، وأقام كلّ واحد منهما بيّنةً، قدّمت بيّنة صاحب اليد ‏"‏ الدّاخل ‏"‏، لأنّهما استويا في إقامة البيّنة وترجّحت بيّنة الدّاخل بيده، كالخبرين اللّذين مع أحدهما قياس، فيقضى له بها‏.‏ قال ابن فرحون‏:‏ وهذا معنى قولهم‏:‏ تقدّم بيّنة الدّاخل على بيّنة الخارج عند التّكافؤ‏.‏

وهل يحكم للدّاخل ببيّنة مع اليمين أو بغير اليمين‏؟‏ قال الشّافعيّة‏:‏ لا يشترط أن يحلف مع بيّنته في الأصحّ، وهذا ما ذكره الدّسوقيّ من المالكيّة‏.‏

وذكر ابن فرحون أنّه يحكم للحائز مع اليمين، وبه قال بعض الشّافعيّة‏.‏

ثانياً‏:‏ البيّنة على الملك المضاف إلى سبب

5 - إذا كانت الدّعوى على ملك مستند إلى سبب من الإرث، أو الشّراء، أو غيرهما فجمهور الفقهاء على تقديم بيّنة ذي اليد في الجملة، لكن اختلفت آراؤهم باختلاف الصّور في المسألة على الوجه التّالي‏:‏

أ - يرى الحنفيّة أنّ سبب الملك إذا كان قابلاً للتّكرار، كالشّراء، ونسج ثوب الخزّ، وزرع الحبوب ونحوها تقدّم بيّنة الخارج، لكونها في حكم دعوى الملك المطلق‏.‏ إلاّ إذا ادّعى كلّ منهما تلقّي الملك من شخص واحد، بأن قال كلّ واحد منهما‏:‏ إنّه اشتراها من زيد مثلاً‏.‏ ففي هذه الحالة تقدّم بيّنة الدّاخل‏.‏

أمّا إذا كان سبب الملك غير قابل للتّكرار، كالنّتاج، أو نسج ثوب القطن مثلًا، فتقدّم بيّنة الدّاخل، لأنّ ما قامت عليه البيّنة أمر زائد لا تدلّ عليه اليد فتعارضتا، فترجّحت بيّنة ذي اليد باليد‏.‏ ولما روى جابر بن عبد اللّه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابّة أو بعير، فأقام كلّ واحد منهما بيّنته بأنّها له أنتجها، فقضى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّذي في يده»‏.‏

والمشهور عند المالكيّة ترجيح بيّنة الدّاخل ‏"‏ ذي اليد ‏"‏ إذا تساوتا في العدالة، سواء أكانت الدّعوى في ملك مطلق أو في ملك مضاف إلى سبب يتكرّر أو لا يتكرّر‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ لا ينتفع الحائز ‏"‏ الدّاخل ‏"‏ ببيّنته، وبيّنة المدّعي أولى‏.‏

أمّا إذا ذكرت إحدى البيّنتين سبب الملك من نتاج أو زراعة، والأخرى لم تذكر سوى مجرّد الملك فإنّه يرجّح من ذكر السّبب‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى تقديم بيّنة ذي اليد ‏"‏ الدّاخل ‏"‏ في الملك المضاف إلى سبب أيضاً، كما في البيّنة على الملك المطلق، إلاّ إذا أطلق الدّاخل دعوى الملك، وأقام بيّنةً‏.‏ وقيّده الخارج بقوله‏:‏ ‏"‏ اشتريته منك ‏"‏، وأقام بيّنةً على ذلك ففي هذه الحالة تقدّم بيّنة الخارج، لزيادة علمها، لكنّهم صرّحوا بأنّه لا تسمع بيّنة الدّاخل إلاّ بعد بيّنة الخارج، لأنّ الأصل في جانبه اليمين فلا يعدل عنها ما دامت كافيةً‏.‏

أمّا الحنابلة فلهم ثلاث روايات‏:‏

الأولى‏:‏ وهي المشهورة عندهم تقديم بيّنة المدّعي ‏"‏ الخارج ‏"‏، وعدم سماع بيّنة الدّاخل بحال، سواء أشهدت بأنّ العين له نتجت في ملكه، أو قطيعة الإمام أم لا، إلاّ إذا أقام كلّ واحد منهما بيّنةً على أنّه اشتراها من الآخر فتقدّم بيّنة الدّاخل‏.‏

والثّانية‏:‏ أنّه إذا شهدت بيّنة الدّاخل بسبب الملك فقالت‏:‏ إنّ العين نتجت في ملكه، أو اشتراها، أو نسجها‏.‏‏.‏ قدّمت، وإلاّ قدّمت بيّنة المدّعي ‏"‏ الخارج ‏"‏‏.‏

والرّواية الثّالثة‏:‏ أنّ بيّنة المدّعى عليه ‏"‏ الدّاخل ‏"‏ تقدّم بكلّ حال، سواء أكانت مستندةً إلى سبب أم على ملك مطلق، لأنّ جنبة المدّعى عليه أقوى، لأنّ الأصل معه ويمينه تقدّم على يمين المدّعي، فإذا تعارضت البيّنتان وجب إبقاء يده على ما فيها، كما لو لم تكن بيّنة لواحد منهما‏.‏ وحديث جابر يدلّ على هذا، فإنّه إنّما قدّمت بيّنته ليده‏.‏

ثالثاً‏:‏ البيّنة على الملك المؤرّخ

6 - إذا أقام كلّ من الدّاخل والخارج بيّنةً على ملك عين وذكر التّاريخ، فبيّنة من تاريخه مقدّم أولى عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو رواية عند الحنابلة، مثلاً إذا ادّعى أحد أنّ العرصة الّتي في يد غيره ملكها هو منذ سنة، وقال ذو اليد ‏"‏ الدّاخل ‏"‏‏:‏ إنّه ملكها منذ سنتين، ترجّح بيّنة ذي اليد‏.‏

وإن قال الدّاخل‏:‏ ‏"‏ ملكتها منذ ستّة أشهر ‏"‏ ترجّح بيّنة الخارج، وذلك لأنّ بيّنة من يكون تاريخه مقدّماً تثبت الملك له وقت التّاريخ، والآخر لا يدّعيه في ذلك الوقت، وإذا ثبت الملك له في ذلك الوقت لا يثبت لغيره إلاّ بالتّلقّي منه، إذ الأصل في الثّابت دوامه‏.‏

واستثنى الحنفيّة من هذا الأصل دعوى النّتاج، فبيّنة ذي اليد فيها أولى من بيّنة الخارج مطلقاً، دون اعتبار التّاريخ، كما يدلّ عليه حديث جابر المتقدّم‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو كانت اليد لمتقدّم التّاريخ قدّمت قطعاً، وإذا كانت لمتأخّر التّاريخ فالمذهب أنّها تقدّم أيضاً، لأنّهما متساويتان في إثبات الملك في الحال فيتساقطان فيه، وتبقى اليد فيه مقابلة الملك السّابق، وهي أقوى من الشّهادة على الملك السّابق بدليل أنّها لا تزال بها‏.‏ وفي القول الثّاني‏:‏ يرجّح السّبق، وفي قول ثالث‏:‏ يتساويان‏.‏

وفي الرّواية الأخرى عند الحنابلة تقدّم بيّنة الخارج ولا اعتبار للتّاريخ‏.‏ وهناك صور وفروع أخرى يرجع لحكمها وأدلّة الفقهاء فيها في مصطلحات‏:‏ ‏(‏دعوى، شهادة‏)‏‏.‏

دار

التّعريف

1 - الدّار لغةً اسم جامع للعرصة والبناء والمحلّة‏.‏

وفي كلّيّات أبي البقاء‏:‏ الدّار اسم لما يشتمل على بيوت ومنازل وصحن غير مسقوف‏.‏

وهي من دار يدور، وسمّيت بذلك لكثرة حركات النّاس فيها واعتباراً بدورانها الّذي لها بالحائط، وجمعها أدور، ودور، والكثير ديار، وهي المنازل المسكونة والمحالّ‏.‏

وكلّ موضع حلّ به قوم فهو دارهم، ومن هنا سمّيت البلدة داراً، والصّقع داراً‏.‏

وقد تطلق الدّار على القبائل مجازًا‏.‏ ومعناها الاصطلاحيّ لا يختلف عن معناها اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البيت‏:‏

2 - أصل البيت لغةً مأوى الإنسان باللّيل، لأنّه يقال‏:‏ بات‏:‏ أي أقام باللّيل، كما يقال‏:‏ ظلّ بالنّهار، ويقال‏:‏ للمسكن بيت من غير اعتبار اللّيل فيه‏.‏

ويقع اسم البيت على المتّخذ من حجر، أو مدر، أو صوف، أو وبر، أو غيرها‏.‏

ويعبّر عن مكان الشّيء بأنّه بيته، وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ‏}‏ وبيت اللّه محلّ عبادته‏.‏ والبيت العتيق، والبيت الحرام هو الكعبة أو المسجد الحرام كلّه‏.‏ فبين البيت والدّار عموم وخصوص وجهيّ‏.‏

ب - الحجرة‏:‏

3 - الحجرة هي الواحدة من حجر الدّار، والجمع حجر، وحجرات، مثل غرف وغرفات‏.‏ ح - الغرفة‏:‏

4 - الغرفة‏:‏ العلّيّة، وقد تطلق على الحجرة، والجمع غرف، ثمّ غرفات بضمّ الرّاء وفتحها‏.‏

د - الخدر‏:‏

5 - الخدر‏:‏ السّتر، والجمع خدور، ويطلق الخدر على البيت إن كان فيه امرأة وأولاد‏.‏

هـ - المنزل‏:‏

6 - المنزل‏:‏ المنهل، والدّار، وموضع النّزول، وقد تكون اسماً لما يشتمل على بيوت، وصحن مسقّف، ومطبخ، يسكنه الرّجل لعياله، وهو دون الدّار وفوق البيت‏.‏ وأقلّه بيتان أو ثلاثة‏.‏

و - المخدع‏:‏

7 - المخدع بضمّ الميم، بيت صغير يحرز فيه الشّيء، وكسر الميم وفتحها لغتان، مأخوذ من أخدعت الشّيء بالألف إذا أخفيته‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالدّار

8 - أورد الفقهاء أحكام الدّار وما يتعلّق بها في عدّة أبواب منها‏:‏ البيع، والإجارة، والوصيّة، والوقف‏.‏

وبحثوا فيما لو باع الشّخص الدّار، أو آجرها أو أوصى بها، أو وقفها، ما يدخل في هذا العقد وما لا يدخل فيه‏.‏

فاتّفق الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ العقد على الدّار عند الإطلاق يدخل فيه الأرض والبناء وكلّ ما هو مثبّت فيها كالأجنحة والرّواشن، والدّرج والمراقي المعقودة، والسّقف، والجسور، والبلاط المفروش المثبّت في الأرض، والأبواب المنصوبة وغلقها المثبّت، والخوابي، ومعاجن الخبّازين وخشب القصّارين، والإجّانات المثبّتة ‏"‏ وهي آنية تغسل فيها الثّياب ‏"‏ والرّفوف، والسّلالم، والسّرر على أن تكون هذه الثّلاثة مسمّرةً‏.‏ كما يدخل في هذا العقد الأشجار الرّطبة المغروسة في الدّار، والبئر المحفورة، والأوتاد المغروزة فيها، لأنّ اسم الدّار يقع على جميع هذه الأشياء عرفاً‏.‏ وكذلك يدخل في هذا العقد حجر الرّحى إذا كان الأسفل منهما مثبّتاً‏.‏

وفي قول لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يدخل الحجر الأعلى إذا كان منفصلاً‏.‏

واتّفقوا على أنّ المنقولات المنفصلة وغير المثبّتة لا تدخل في العقد عند الإطلاق، وذلك كالسّرير، والفرش، والسّتائر، والرّفوف الموضوعة بغير تسمير ولا غرز في الحائط، وكذلك الأقفال والحبال، والدّلو، والبكرة إذا لم تكن مركّبةً بالبئر بأن كانت مشدودةً بحبل أو موضوعةً‏.‏ وكذلك السّلالم الموضوعة غير المركّبة‏.‏ وكلّ ما لا يكون من بناء الدّار ولا متّصلاً بها من خشب وحجر، وحيوان، وغيرها من المنقولات الموجودة في الدّار‏.‏

وهذا كلّه عند الإطلاق‏.‏ أمّا إذا اتّفق الطّرفان على أن يشمل العقد جميع المنقولات الموجودة في الدّار أو بعضها، أو قال‏:‏ وقفت الدّار بجميع ما فيها، فإنّ المنقولات الموجودة تدخل في العقد تبعاً للدّار أو حسبما اتّفق عليه الطّرفان‏.‏ والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع، وقف‏)‏ واختلف الفقهاء في وقف علو الدّار دون سفلها، أو سفلها دون علوها، أو جعل وسط داره مسجدًا ولم يذكر الاستطراق‏.‏

فذهب الجمهور إلى صحّة هذا الوقف، لأنّه كما يصحّ بيعه فكذلك يصحّ وقفه، كوقف الدّار جميعاً، ولأنّه تصرّف يزيل الملك إلى من يثبت له حقّ الاستقرار والتّصرّف‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم صحّة ذلك‏.‏ والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

دار الإسلام

التّعريف

1 - دار الإسلام هي‏:‏ كلّ بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرةً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ هي كلّ أرض تظهر فيها أحكام الإسلام - ويراد بظهور أحكام الإسلام‏:‏ كلّ حكم من أحكامه غير نحو العبادات كتحريم الزّنى والسّرقة - أو يسكنها المسلمون وإن كان معهم فيها أهل ذمّة، أو فتحها المسلمون، وأقرّوها بيد الكفّار، أو كانوا يسكنونها، ثمّ أجلاهم الكفّار عنها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - دار الحرب‏:‏

2 - دار الحرب هي‏:‏ كلّ بقعة تكون فيها أحكام الكفر ظاهرةً‏.‏

ب - دار العهد‏:‏

3 - دار العهد‏:‏ وتسمّى دار الموادعة ودار الصّلح وهي‏:‏ كلّ ناحية صالح المسلمون أهلها بترك القتال على أن تكون الأرض لأهلها‏.‏

ج - دار البغي‏:‏

4 - دار البغي هي‏:‏ ناحية من دار الإسلام تحيّز إليها مجموعة من المسلمين لهم شوكة خرجت على طاعة الإمام بتأويل‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - إذا استولى الكفّار على بقعة من دار الإسلام صار الجهاد فرض عين على جميع أفراد النّاحية الّتي استولى عليها الكفّار، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، أصحّاء ومرضى، فإذا لم يستطع أهل النّاحية دفع العدوّ عن دار الإسلام، صار الجهاد فرض عين على من يليهم من أهل النّواحي الأخرى من دار الإسلام، وهكذا حتّى يكون الجهاد فرض عين على جميع المسلمين، ولا يجوز تمكين غير المسلمين من دار الإسلام‏.‏

ويأثم جميع المسلمين إذا تركوا غيرهم يستولي على شيء من دار الإسلام‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ جهاد‏)‏‏.‏

ويجب على أهل بلدان دار الإسلام، وقراها من المسلمين إقامة شعائر الإسلام، وإظهارها فيها كالجمعة، والجماعة، وصلاة العيدين، والأذان، وغير ذلك من شعائر الإسلام، فإن ترك أهل بلد أو قرية إقامة هذه الشّعائر أو إظهارها قوتلوا وإن أقاموها سرّاً‏.‏

ولا يجوز لغير المسلمين دخول دار الإسلام إلاّ بإذن من الإمام أو أمان في مسلم‏.‏

ولا يجوز لهم إحداث دور عبادة لغير المسلمين‏:‏ كالكنائس، والصّوامع، وبيت النّار، على تفصيل سيأتي‏.‏

تحوّل دار الإسلام إلى دار كفر

6 - اختلف الفقهاء في تحوّل دار الإسلام إلى دار للكفر‏.‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ لا تصير دار الإسلام دار كفر بحال من الأحوال، وإن استولى عليها الكفّار، وأجلوا المسلمين عنها، وأظهروا فيها أحكامهم‏.‏ لخبر‏:‏ «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» وقال المالكيّة، والحنابلة، وصاحبا أبي حنيفة ‏"‏ أبو يوسف، ومحمّد ‏"‏‏:‏ تصير دار الإسلام دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا تصير دار كفر إلاّ بثلاث شرائط‏:‏

أ - ظهور أحكام الكفر فيها‏.‏

ب - أن تكون متاخمةً لدار الكفر‏.‏

ج - أن لا يبقى فيها مسلم، ولا ذمّيّ آمناً بالأمان الأوّل، وهو أمان المسلمين‏.‏

ووجه قول الصّاحبين ومن معهما أنّ دار الإسلام ودار الكفر‏:‏ أضيفتا إلى الإسلام وإلى الكفر لظهور الإسلام أو الكفر فيهما، كما تسمّى الجنّة دار السّلام، والنّار دار البوار، لوجود السّلامة في الجنّة، والبوار في النّار، وظهور الإسلام والكفر إنّما هو بظهور أحكامهما، فإذا ظهرت أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر، فصحّت الإضافة، ولهذا صارت الدّار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شريطة أخرى، فكذا تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها‏.‏

ووجه قول أبي حنيفة‏:‏ أنّ المقصود من إضافة الدّار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين الإسلام والكفر، وإنّما المقصود هو‏:‏ الأمن، والخوف، ومعناه‏:‏ أنّ الأمن إن كان للمسلمين في الدّار على الإطلاق والخوف لغيرهم على الإطلاق فهي دار إسلام، وإن كان الأمن فيها لغير المسلمين على الإطلاق والخوف للمسلمين على الإطلاق فهي دار كفر، فالأحكام عنده مبنيّة على الأمان والخوف، لا على الإسلام والكفر، فكان اعتبار الأمن والخوف أولى‏.‏ وينظر التّفصيل في ‏(‏دار الحرب‏)‏‏.‏

دخول الحربيّ دار الإسلام

7 - ليس للحربيّ دخول دار الإسلام إلاّ بإذن من الإمام أو نائبه، فإن استأذن في دخولها فإن كان في دخوله مصلحة، كإبلاغ رسالة، أو سماع كلام اللّه تعالى، أو حمل ميرة أو متاع يحتاج إليهما المسلمون، جاز الإذن له بدخول دار الإسلام إلاّ الحرم، ولا يقيم في الحجاز أكثر من ثلاثة أيّام، لأنّ ما زاد على هذه المدّة في حكم الإقامة، وهو غير جائز‏.‏ وفي غير الحجاز يقيم قدر الحاجة‏.‏ أمّا الحرم فلا يجوز دخول كافر فيه وإن كان ذمّيًّا بحال من الأحوال عند جمهور الفقهاء‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا‏}‏‏.‏ وللتّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏أرض العرب، حرم‏)‏‏.‏

مال المستأمن وأهله

8 - إذا دخل الحربيّ دار الإسلام بأمان من الإمام كان ما معه من مال، وزوجة، وأولاد صغار في أمان، أمّا ما خلّفه في دار الحرب فلا يدخل في الأمان،إلاّ بالشّرط في عقد الأمان‏.‏ وإن نقض العهد والتحق بدار الحرب بقي الأمان لما تركه في دار الإسلام، وله أن يدخل في دار الإسلام لتحصيل ما تركه من دين الوديعة ونحو ذلك، وإن مات في دار الحرب فتركته في دار الإسلام لورثته‏.‏ وإن دخل لتجارة جاز للإمام أن يشترط عليه عشر ما معه من مال التّجارة، وله أن يأذن لهم بغير شيء‏.‏

استيطان غير المسلم دار الإسلام

9 - قسّم الفقهاء دار الإسلام إلى قسمين‏:‏ جزيرة العرب وغيرها‏:‏ فجزيرة العرب لا يمكّن غير المسلم من الاستيطان فيها، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء‏.‏

واستدلّوا بخبر‏:‏ «لا يترك بجزيرة العرب دينان»‏.‏

وخبر‏:‏ «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»‏.‏ واختلفوا في المراد من حزيرة العرب‏.‏

فقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ المراد بالجزيرة العربيّة الحجاز، فتجوز إقامتهم في غير الحجاز من الجزيرة، لأنّ أحداً من الخلفاء لم يخرج الكفّار من اليمن، وتيماء، ونجران‏.‏

وقال غيرهم‏:‏ المراد جزيرة العرب كلّها من عدن أبين إلى ريف العراق‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏أرض العرب‏)‏‏.‏

إحداث دور عبادة لغير المسلمين

10 - لا يجوز إحداث كنيسة، أو صومعة، أو بيت نار للمجوس في دار الإسلام، بتفصيل يرجع‏:‏ إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏معابد‏)‏‏.‏

اللّقيط وأثر الدّار في دينه

11 - إذا وجد طفل منبوذ في دار الإسلام حكم بإسلامه وإن كان فيها مع المسلمين غير مسلمين ‏(‏انظر‏:‏ لقيط‏)‏‏.‏

إحياء غير المسلم موات دار الإسلام، وحفر معادنه

12 - ليس لغير المسلم إحياء موات في دار الإسلام لا يملكه بالإحياء، ولا حفر معادنها، ولا يمكّن من ذلك‏.‏ وينظر التّفصيل في ‏(‏إحياء الموات، وزكاة المعادن‏)‏‏.‏

دار البغي

التّعريف

1 - الدّار اسم جامع للعرصة والبناء والمحلّة، وكلّ موضع حلّ به قوم فهو دارهم‏.‏

والبغي لغةً‏:‏ مصدر بغى يبغي بغياً إذا ظلم وتعدّى، ويقال‏:‏ بغيت الشّيء إذا طلبته‏.‏

وأصل البغي الظّلم ومجاوزة الحدّ، وبغى الجرح تجاوز الحدّ في فساده‏.‏ وبغت المرأة بغياً، وباغت مباغاةً، وتبغي بغاءً فهي بغيّ، إذا فجرت، وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها‏.‏

وبغت السّماء تجاوزت في المطر الحدّ المحتاج إليه‏.‏

وبغى تكبّر واستطال وعدل عن الحقّ وقصد الفساد‏.‏

والفئة الباغية هي الظّالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل، ومنه قول الرّسول صلى الله عليه وسلم لعمّار بن ياسر رضي الله عنه‏:‏ «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية»‏.‏

وهذا هو معناه الشّرعيّ، فالباغي هو المخالف لإمام العدل الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه كزكاة وخراج أرض وغيرهما‏.‏

2 - ودار البغي في الاصطلاح‏:‏ جزء من دار الإسلام تفرّد به جماعة من المسلمين خرجوا على طاعة الإمام الحقّ بحجّة تأوّلوها مبرّرة لخروجهم، وامتنعوا وتحصّنوا بتلك الأرض الّتي أصبحت في حوزتهم، وأقاموا عليهم حاكمًا منهم، وصار لهم جيش ومنعة‏.‏

أحكام دار البغي

3 - إذا استولى البغاة على بلد في دار الإسلام، ونصّبوا لهم إماماً، وأحدث إمامهم تصرّفات باعتباره حاكماً كالجباية، من جمع الزّكاة، والعشور، والجزية، والخراج، واستيفاء الحدود، والتّعازير، وإقامة القضاة، ففي نفاذ هذه التّصرّفات وترتّب آثارها عليها في حقّ أهل العدل تفصيل وخلاف، ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏بغاة‏)‏‏.‏

دار الحرب

التّعريف

1 - دار الحرب‏:‏ هي كلّ بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرةً‏.‏

الأحكام المتعلّقة بدار الحرب

الهجرة

2 - قسّم الفقهاء النّاس في شأن الهجرة من دار الحرب إلى ثلاثة أضرب‏:‏

أ - من تجب عليه الهجرة، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه مع المقام في دار الحرب، وإن كانت أنثى لا تجد محرماً، إن كانت تأمن على نفسها في الطّريق، أو كان خوف الطّريق أقلّ من خوف المقام في دار الحرب‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏‏.‏

وفي الآية وعيد شديد، والوعيد الشّديد لا يكون إلاّ في ارتكاب المحرّم وترك الواجب‏.‏ ولحديث‏:‏ «أنا بريء من كلّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما»

وحديث‏:‏ «لا تنقطع الهجرة ما دام العدوّ يقاتل» أمّا حديث‏:‏ «لا هجرة بعد الفتح» فمعناه لا هجرة من مكّة بعد فتحها، لصيرورة مكّة دار إسلام إلى يوم القيامة إن شاء اللّه‏.‏

ب - من لا هجرة عليه‏:‏ وهو من يعجز عنها، إمّا لمرض، أو إكراه على الإقامة في دار الكفر، أو ضعف كالنّساء، والولدان‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً‏}‏‏.‏

ج - من تستحبّ له الهجرة، ولا تجب عليه، وهو‏:‏ من يقدر على الهجرة ويتمكّن من إظهار دينه في دار الحرب، فهذا يستحبّ له الهجرة ليتمكّن من الجهاد، وتكثير المسلمين‏.‏

د - وزاد الشّافعيّة قسماً رابعاً‏:‏ وهو من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، ويقدر على الاعتزال في مكان خاصّ، والامتناع من الكفّار، فهذا تحرم عليه الهجرة، لأنّ مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفّار، وهو أمر لا يجوز، لأنّ كلّ محلّ قدر أهله على الامتناع من الكفّار صار دار إسلام‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا تجب الهجرة من دار الحرب لخبر‏:‏ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة»‏.‏ أمّا حديث‏:‏ «ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين»‏.‏ فمنسوخ بحديث‏:‏

«لا هجرة بعد الفتح»‏.‏

التّزوّج في دار الحرب

3 - اتّفق الفقهاء على كراهة التّزوّج في دار الحرب لمن دخل فيها من المسلمين بأمان، لتجارة، أو لغيرها، ولو بمسلمة، وتشتدّ الكراهة إذا كانت من أهل الحرب‏.‏

وعند الحنفيّة الكراهة تحريميّة في الحربيّة لافتتاح باب الفتنة، وتنزيهيّة في غيرها، لأنّ فيه تعريضاً للذّرّيّة لفساد عظيم، إذ أنّ الولد إذا نشأ في دارهم لا يؤمن أن ينشأ على دينهم، وإذا كانت الزّوجة منهم فقد تغلب على ولدها فيتبعها على دينها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا كان المسلم أسيراً في دار الحرب، فلا يحلّ له التّزوّج ما دام أسيراً، لأنّه إذا ولد له ولد كان لهم رقيقاً‏.‏

الرّبا في دار الحرب

4 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّ الرّبا حرام في دار الحرب كحرمته في دار الإسلام، فما كان حراماً في دار الإسلام، كان حراماً في دار الحرب، سواء بين المسلمين وبين أهل الحرب، أو بين مسلمين لم يهاجرا من دار الحرب، وبهذا قال الشّافعيّ، ومالك، وأبو يوسف من الحنفيّة، وقالوا‏:‏ إنّ النّصوص في تحريم الرّبا عامّة، ولم تفرّق بين دار ودار، ولا بين مسلم وغيره‏.‏ ‏(‏راجع مصطلح‏:‏ رباً‏)‏‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمّد‏:‏ لا يحرم الرّبا في دار الحرب بين المسلم وأهل الحرب، ولا بين مسلمين لم يهاجرا من دار الحرب‏.‏ لحديث‏:‏ «لا ربا بين المسلم والحربيّ في دار الحرب» ولأنّ مالهم مباح في دارهم، فبأيّ طريق أخذه المسلم أخذ مالاً مباحاً إذا لم يكن فيه غدر، ولأنّ مال أهل الحرب مباح بغير عقد، فبالعقد الفاسد أولى‏.‏

ولأنّ «أبا بكر رضي الله عنه خاطر قريشاً قبل الهجرة حين أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ وقالت قريش‏:‏ أترون أنّ الرّوم تغلب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقالوا‏:‏ هل لك أن تخاطرنا في ذلك‏؟‏ فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اذهب إليهم فزد في الخطر وزد في الأجل ففعل، وغلبت الرّوم فارسًا فأخذ أبو بكر خطره، فأقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو القمار بعينه»‏.‏

وكانت مكّة في ذلك الوقت دار حرب، فدلّ ذلك على أنّ للمسلم أخذ مال الحربيّ في دار الحرب ما لم يكن غدراً‏.‏

إقامة الحدّ على المسلم في دار الحرب

5 - اختلف الفقهاء في إقامة الحدّ على من زنى من المسلمين أو سرق، أو قذف مسلماً، أو شرب خمراً في دار الحرب‏.‏

فقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يجب على الإمام إقامة الحدّ عليه، لأنّ إقامة الحدود فرض كالصّلاة، والصّوم، والزّكاة، ولا تسقط دار الحرب عنه شيئاً من ذلك‏.‏ وإذا قتل مسلم مسلماً في دار الحرب يستوفي منه القصاص، ويكون الحكم كما لو كانوا في دار الإسلام‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يقام عليه الحدّ، ولو بعد رجوعه إلى دار الإسلام لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقام الحدود في دار الحرب»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ من زنى أو سرق في دار الحرب وأصاب بها حدّاً ثمّ هرب فخرج إلينا فإنّه لا يقام عليه الحدّ واللّه أعلم به ‏"‏ ولأنّ الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب لعدم الولاية، ولا يقام عليه بعد الرّجوع إلى دار الإسلام، لأنّ الفعل لم يقع موجباً أصلاً، وكذلك إذا قتل مسلماً فيها لا يؤخذ بالقصاص وإن كان القتل عمداً لتعذّر الاستيفاء، ولأنّ كونه في دار الحرب أورث شبهةً في الوجوب، والقصاص لا يجب مع الشّبهة، ويضمن الدّية وتكون في ماله لا على العاقلة، لأنّ الدّية تجب على القاتل ابتداءً، ثمّ العاقلة تتحمّل عنه لما بينهم من التّناصر، ولا تناصر عند اختلاف الدّار‏.‏

وقال الحنابلة أيضاً‏:‏ تجب الحدود والقصاص، ولكنّها لا تقام في دار الحرب، وتقام عليه بعد رجوعه من دار الحرب‏.‏ واستدلّوا بما رواه سعيد في سننه، أنّ عمر رضي الله عنه كتب إلى النّاس لا يجلدنّ أمير جيش ولا سريّة رجلاً من المسلمين حدّاً وهو غاز حتّى يقطع الدّرب قافلاً لئلاّ يلحقه حميّة الشّيطان، فيلحق، بالكفّار‏.‏

حدّ من أصاب حدّاً من أفراد الجيش

6 - قال الحنفيّة‏:‏ إذا أصاب أحد أفراد الجيش حدّاً، أو قتل مسلماً خطأً أو عمداً في دار الحرب خارج المعسكر لا يقام عليه الحدّ أو القصاص، أمّا إذا زنى أحدهم في معسكر الجيش لم يأخذه أمير الجيش بشيء من ذلك إذا كان الإمام لم يفوّض إليه إقامة الحدود والقصاص، إلاّ أنّه يضمّنه المسروق والدّية في القتل، لأنّه يقدر على استيفاء ضمان المال‏.‏

أمّا إذا غزا من له ولاية إقامة الحدود، سواء غزا الخليفة بنفسه، أو أمير مصر من الأمصار، ففعل رجل من الجيش ذلك في معسكره أقام عليه الحدّ، واقتصّ منه في العمد، وضمّنه الدّية في الخطأ في ماله، لأنّ إقامه الحدود إلى الإمام، وبما له من الشّوكة، وانقياد الجيوش له يكون لعسكره حكم دار الإسلام‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ إذا أصاب الرّجل حدّاً وهو محاصر للعدوّ أقيم عليه الحدّ‏.‏

وقالوا‏:‏ ولا يمنعنا الخوف عليه من اللّحوق بالمشركين أن نقيم حدود اللّه‏.‏ ولو فعلنا ذلك توقّياً من أن يغضب ما أقمنا الحدّ أبداً، لأنّه يمكنه من أيّ موضع أن يلحق بدار الحرب فيعطّل حكم اللّه، ثمّ إنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قد أقام الحدود بالمدينة والشّرك قريب منها، وفيها مشركون موادعون‏.‏ وضرب الشّارب بحنين والشّرك قريب منها‏.‏

حصول الفرقة باختلاف الدّار بين الزّوجين

7 - اختلاف الفقهاء في انقطاع عصمة الزّوجيّة باختلاف الدّارين‏.‏

فقال الجمهور‏:‏ لا تقع الفرقة باختلاف الدّار، فإن أسلم زوج كتابيّة، وهاجر إلى دار الإسلام، وبقيت في دار الحرب فهما على نكاحهما، لأنّ نكاح الكتابيّة يجوز ابتداؤه فالاستمرار أولى، سواء كان قبل الدّخول، أو بعده‏.‏ وإن أسلمت كتابيّة تحت كتابيّ، أو غيره، أو أسلم أحد الزّوجين غير الكتابيّين، قبل الدّخول حصلت الفرقة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ وإن أسلم أحدهما بعد الدّخول، وقف الأمر على انتهاء العدّة، فإن أسلم الآخر في العدّة بقي نكاحهما، وإلاّ تبيّنّا فسخه منذ أسلم الأوّل، لأنّ سبب الفرقة اختلاف الدّين لا اختلاف الدّار‏.‏

واستدلّوا بما رواه ابن شبرمة قال‏:‏ «كان النّاس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسلم الرّجل قبل المرأة، والمرأة قبله، فأيّهما أسلم قبل انقضاء العدّة فهي امرأته، وإن أسلم بعد العدّة فلا نكاح بينهما»، ولم يذكر في الأثر دار حرب، ولا دار إسلام، فسبب الفرقة إذاً اختلاف الدّين‏.‏ فكون أحد الزّوجين في دار الحرب لا يوجب فرقةً‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الفرقة تحصل باختلاف الدّارين، فإن خرج أحد الزّوجين إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمّيّاً، وترك الآخر في دار الحرب وقعت الفرقة بينهما، لأنّه باختلاف الدّارين يخرج الملك من أن يكون منتفعًا به، لعدم التّمكّن من الانتفاع عادةً، فلم يكن في بقائه فائدة‏.‏ وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏اختلاف الدّار‏)‏‏.‏

قسمة الغنيمة في دار الحرب

8 - اختلف الفقهاء في صحّة قسم الغنيمة في دار الحرب‏.‏

فذهب المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة إلى أنّه يجوز قسمتها في دار الحرب، وتبايعها فيها، واستدلّوا بما روى أبو إسحاق الفزاريّ قال‏:‏ قلت للأوزاعيّ‏:‏ هل قسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغنائم بالمدينة‏؟‏ فقال‏:‏ لا أعلمه، إنّما كان النّاس يتّبعون غنائمهم، ويقسمونها في أرض عدوّهم، ولم يغفل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن غزاة قطّ أصاب فيها غنيمةً إلاّ خمّسها وقسمها من قبل أن يغفل، من ذلك غزاة بني المصطلق، وهوازن، وخيبر، ولأنّ الملك يثبت فيها بالقهر والاستيلاء فصحّت قسمته، ولأنّ قسمة أموالهم في دارهم أنكى لهم، وأطيب لقلوب المجاهدين، وأحفظ للغنيمة، وأرفق بهم في التّصرّف‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ القسمة نوعان‏:‏

أ - قسمة حمل ونقل‏.‏

ب - وقسمة ملك‏.‏

أمّا قسمة الحمل، فهي إن عزّت الدّوابّ، ولم يجد الإمام حمولةً يفرّق الغنائم على الغزاة فيحمل كلّ رجل على قدر نصيبه إلى دار الإسلام، ثمّ يستردّها منهم، فيقسمها قسمة ملك‏.‏

أمّا قسمة الملك فلا تجوز في دار الحرب حتّى يخرجوها إلى دار الإسلام، ويحرزوها، وقالوا‏:‏ إنّ الحقّ يثبت بنفس الأخذ، ويتأكّد بالإحراز، ويتمكّن بالقسمة كحقّ الشّفيع فإنّه يثبت بالبيع، ويتأكّد بالطّلب، ويتمّ الملك بالأخذ، وما دام الحقّ ضعيفاً لا تجوز القسمة لأنّه دون الملك الضّعيف في المبيع قبل القبض، ولأنّ السّبب هو القهر، وقبل الإحراز هم قاهرون يدًا مقهورون داراً، والثّابت من وجه دون وجه يكون ضعيفاً‏.‏

9- وينبني على هذا الخلاف بين الحنفيّة، والجمهور أحكام‏.‏

منها‏:‏ أنّه إذا مات أحد الغانمين في دار الحرب لا يورث من الغنيمة عند الحنفيّة، وعند الجمهور يورث‏.‏

ومنها‏:‏ إذا لحق الجيش أحد بعد الحيازة في دار الحرب لا يشارك عند الجمهور، وعند الحنفيّة يشاركهم إذا لحق قبل الحيازة إلى دار الإسلام‏.‏

وإذا أتلف أحد الغانمين شيئاً من الغنيمة في دار الحرب يضمن عند الجمهور، ولا يضمن عند الحنفيّة‏.‏

استيلاء الكفّار على أموال المسلمين، وأثر الدّار في ذلك

10 - اختلف الفقهاء في تملّك أهل الحرب أموال المسلمين بالاستيلاء عليها، فذهب الشّافعيّة إلى أنّهم لا يملكونها وإن أحرزوها بدارهم،لأنّه مال معصوم طرأت عليه يد عادية، فلم يملك بها كالغصب‏.‏ وإذا كان المسلم لا يملك مال المسلم بالاستيلاء عليه بغصب، فالمشرك أولى ألاّ يملك‏.‏ وخبر «عمران بن حصين في الأنصاريّة الّتي أسرت، ثمّ امتطت ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأعجزت من طلبها، فنذرت الأنصاريّة إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنها، فلمّا قدمت المدينة رآها النّاس، فقالوا‏:‏ العضباء، ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ إنّها نذرت إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنها، فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال‏:‏ سبحان اللّه، بئسما جزتها، نذرت للّه إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد»‏.‏

ولو كان المشركون يملكون على المسلمين أموالهم لملكت الأنصاريّة النّاقة‏.‏ لأنّها تكون أخذت مالاً غير معصوم في دار حرب وأحرزوه بدارهم، ولكنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنّها نذرت فيما لا تملك وأخذ ناقته، وبه قال أبو الخطّاب من الحنابلة، قال‏:‏ وهو ظاهر كلام أحمد‏.‏

وقال الحنفيّة، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة‏:‏ إنّ أهل دار الحرب إذا دخلوا دار الإسلام واستولوا على أموال المسلمين ولم يحرزوها بدارهم لا يملكونها، أمّا إذا أحرزوها بدارهم فإنّهم يملكونها‏.‏ وقالوا‏:‏ لأنّ ملك المسلم يزول بالإحراز بدار الحرب، فتزول العصمة، فكأنّهم استولوا على مال مباح غير مملوك، لأنّ الملك هو‏:‏ الاختصاص بالمحلّ في حقّ التّصرّف، أو شرع للتّمكّن من التّصرّف في المحلّ، وقد زال بالإحراز بالدّار‏.‏ فإذا زال معنى الملك أو ما شرع له الملك، يزول الملك ضرورةً‏.‏

وقال المالكيّة والحنابلة في قول‏:‏ يملكونها بالاستيلاء في دار الإسلام‏.‏

وقالوا‏:‏ لأنّ القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فملك به الكافر مال المسلم كالبيع، ولأنّ الاستيلاء سبب الملك فيثبت قبل الحيازة إلى الدّار، كاستيلاء المسلمين على مال الكفّار، ولأنّ ما كان سبباً للملك أثبت الملك حيث وجد، كالهبة والبيع‏.‏

وينبني على هذا الخلاف، اختلافهم في حكم ما استولى عليه أهل دار الحرب من أموال المسلمين ثمّ استردّه المسلمون، فمن رأى أنّهم يملكون أموال المسلمين‏:‏ يرى أنّه إذا وجده مالكه المسلم أو الذّمّيّ قبل القسمة أخذه بدون ردّ قيمته، أمّا إذا وجده بعد القسمة فإنّه يأخذه بقيمته‏.‏ ومن ذهب إلى أنّهم لا يملكونه‏:‏ يرى أنّ المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة أخذه قبل القسمة وبعد القسمة بلا ردّ شيء‏.‏

قضاء القاضي المسلم في منازعات حدثت أسبابها في دار الحرب

11 - إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان، وأخذ مالاً من حربيّ في دار الحرب مضاربةً، أو وديعةً، أو بشراء أو ببيع في الذّمّة أو قرض، فالثّمن في ذمّته، عليه أداؤه إليه بمقتضى العقد، وإذا خرج الحربيّ إلى دار الإسلام مستأمناً قضى القاضي على المسلم بماله كما يقضي به للمسلم والذّمّيّ في دار الإسلام، لأنّ الحكم جار على المسلم حيث كان، لا نزيل الحقّ عنه بأن يكون في موضع من المواضع‏.‏ كما لا تزول الصّلاة عنه بأن يكون في دار الحرب، وكذلك إن اقترض حربيّ من حربيّ أو مسلم مالاً ثمّ دخل إلينا فأسلم، فعليه البدل ويقضى عليه لالتزامه بعقد‏.‏

أمّا إن أتلف عليه ماله أو غصبه منه في دار الحرب، فقدما إلينا بإسلام، أو أمان، فلا ضمان عليه في الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو مقتضى مذهب الحنابلة، لأنّه لم يلتزم شيئاً، والإتلاف ليس عقداً يستدام، ولأنّ مال الحربيّ لا يزيد على مال المسلم، وهو لا يوجب الضّمان على الحربيّ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أن يضمن‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ ليس للقاضي المسلم القضاء من حربيّين إذا خرجا إلينا مستأمنين، لأنّ المداينة في دار الحرب وقعت هدرًا لانعدام ولايتنا عليهم‏.‏ أمّا لو خرجا إلينا مسلمين فإنّه يقضى بينهما لثبوت الولاية، أمّا في الغصب والإتلاف فلا يقضى، وإن خرجا إلينا مسلمين‏.‏

عصمة الأنفس والأموال في دار الحرب

12 - الأصل أنّ أموال أهل الحرب ودماءهم مباحة لا عصمة لهم في شيء من ذلك، وللمسلمين الاستيلاء على أنفسهم وأموالهم بشتّى الطّرق، لأنّهم يستبيحون دماءنا وأموالنا، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء، ولكن ذكروا حالات تثبت لأنفسهم ولأموالهم العصمة وهم في دار الحرب، منها‏:‏

13 - أ - إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بأسر، وائتمنوه على نفس أو مال لم يحلّ له خيانتهم في شيء، لأنّهم أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمنه إيّاهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك في اللّفظ، فهو معلوم في المعنى، فلم يحلّ له خيانتهم، لأنّه غدر، ولا يصلح الغدر في الإسلام، فإن سرق منهم شيئاً أو غصب، وجب ردّه إلى أربابه، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان ردّه إليهم، وإلاّ بعث به إليهم، لأنّه أخذه على وجه محرّم فلزمه ردّه، كما لو أخذ مال مسلم‏.‏

وإذا أسلم الحربيّ في دار الحرب حقن دمه، وأحرز ماله وأولاده الصّغار من السّبي، فإذا قتله مسلم عمداً اقتصّ منه عند الشّافعيّ، وإن قتله خطأً فعليه الدّية والكفّارة عند الشّافعيّ وأبي يوسف لعموم الأدلّة في عصمة دم المسلم وماله أينما كان وحيث وجد‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا قتله مسلم عمدًا في دار الحرب، أو خطأً فلا شيء عليه إلاّ الكفّارة في الخطأ، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ ولم يذكر الدّية‏.‏ وينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏قتل عمد‏)‏‏.‏

أمّا أولاده الصّغار فأحرار مسلمون تبعاً له أمّا ماله فما كان بيده من منقول فهو له‏.‏ وكذلك ما كان بيد مسلم وديعةً، أو بيد ذمّيّ فهو له، لأنّ يد المودع كيد المالك فكان معصوماً‏.‏

أمّا العقار من ماله فإن ظهر المسلمون على دار الحرب فهي غنيمة، لأنّها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها‏.‏

14 - ب - وإذا أسلم الحربيّ في دار الإسلام، أو خرج إليها، وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين، ولم يجز سبيهم، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّهم أولاد مسلم، فيجب أن يتّبعوه في الإسلام كما لو كانوا معه في الدّار، ولأنّ ماله مال مسلم فلا يجوز اغتنامه كما لو كان في دار الإسلام‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن أسلم في دار الحرب، وهاجر إلينا ثمّ ظهر المسلمون على الدّار، فأمواله فيء، إلاّ ما كان في يد مسلم أو ذمّيّ وديعةً‏.‏

وإن أسلم في دار الإسلام ثمّ ظهر المسلمون على الدّار فجميع أمواله وأولاده الصّغار فيء، لأنّ اختلاف الدّار يمنع التّبعيّة، وإلى هذا ذهب المالكيّة أيضاً‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا دخل المسلم دار الحرب فأصاب مالاً، ثمّ ظهر المسلمون على الدّار فحكمه حكم الّذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا‏.‏

التّجارة في دار الحرب

15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه ليس للتّاجر أن يحمل إلى دار الحرب ما يستعين به أهل الحرب على الحرب، كالسّلاح بأنواعه، والسّروج، والنّحاس، والحديد، وكلّ ما من شأنه تقويتهم في الحرب، لأنّ في ذلك إمدادهم وإعانتهم على حرب المسلمين، وليس للحربيّ إذا دخل دار الإسلام أن يشتري سلاحاً، وإذا اشترى لا يُمَكَّن من إدخاله إلى دار الحرب‏.‏

أمّا الاتّجار بغير السّلاح ونحوه ممّا لا يستخدم في الحرب في دار الحرب، فلا بأس به، كالثّياب، والطّعام، ونحو ذلك لانعدام علّة المنع من البيع‏.‏ إلاّ أن يحتاج المسلمون إلى السّلعة فلا يحمل إليهم، وجرت العادة على ذلك من التّجّار، وأنّهم كانوا يدخلون دار الحرب للتّجارة من غير ظهور المنع ولا إنكار عليهم، ولكنّ الأفضل أن يتركوا ذلك، لأنّهم يستخفّون بالمسلمين، ويدعونهم إلى ما هم عليه، فكان الكفّ والإمساك عن الدّخول في دارهم من باب صيانة النّفس عن الهوان، والدّين عن الزّوال‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يكره المتاجرة في دار الحرب كراهةً شديدةً، ولا ينبغي للمسلم أن يخرج إلى بلادهم حيث تجري أحكام الكفر عليه‏.‏

أثر اختلاف الدّار في أحكام الأسرة والتّوارث

16 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسلم يرث المسلم وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام، واختلفوا في توارث غير المسلمين إذا اختلفوا في الدّار‏.‏

‏(‏ر‏:‏ اختلاف الدّار‏)‏‏.‏